الخميس، 6 يونيو 2013
1:01 ص

حصريا لـ «التحرير».. محاضرة البرادعى ضمن سلسلة محاضرات نوبل مونشنجلادباخ - ألمانيا - 5 يونيو 2013




بدلا من أن يبذل محمد مرسى المجهود للتــــــــــواصل مع المجتمع.. توج نفسه فرعونًا لماذا توحدنا ضد مبارك وأصبح ذلك صعبـــــــًا بعد رحيله؟
مساء الخير، سيداتى سادتى، إنه لشرف لى أن أشارككم تلك السلسلة من المحاضرات، التى عرضت أفكار العديد من الحاصلين على جوائز نوبل بشأن قضايا ذات الأهمية العالمية.
يسألنى الصحفيون دومًا: «كيف تجولت من مراقب فى الوكالة الدولية للطاقة النووية إلى مناصر الحركة المصرية المؤيدة للديمقراطية؟»، أقول لهم إنى لم أخطط لهذا الأمر بتلك الطريقة. لكن فى الواقع كان هذا تحولًا سلسًا طبيعيًّا. فكلا المسارين، فى جوهرهما يسعيان لتطبيق مهام أمن الإنسان وكرامته.
يمر عالمنا بمرحلة انتقالية بالغة الأهمية، توجه فيه دفته من خلال مياه مجهولة. سأتحدث اليوم عن مسيرة مصر نحو الديمقراطية -الحلم والكابوس- وأنا سأتطرق بإيجاز إلى الجدل الدائر حول الانتشار النووى فى إيران. إلا أن الصراع الذى نواجهه هو أكبر بكثير من دولة، أو صراع أو قضية بعينها. بل هو صراع حول مستقبل البشرية: الجهاد العالمى، لو أردت -أن تستخدم الكلمة العربية لمعنى «نضال»- هو جهاد النفس. أى نوع من العالم نريد أن نتركه لأطفالنا؟ ما القيم، والمؤسسات وبروتوكولات الحكم، والسلوكيات والعقلية، التى من شأنها أن تمكن الأسرة البشرية من تحقيق سلام دائم؟ إنه فى الواقع، هو الجهاد العالمى، الذى نحن جميعًا منخرطون فيه: الجهاد من أجل قلب الإنسانية.
تنطوى جذور هذا الصراع على إعادة تقييم -إعادة تعريف- لمعنى الأمن الإنسانى. كان يعرف عدم المساواة وانعدام الأمن على أنهما وجهان لعملة واحدة، وهذه الإدارة تقودنا إلى إعادة تقييم الاعتماد التقليدى على القوة العسكرية، وعلى نادى النخبة ممن يملكون الأسلحة النووية، ومن لا يملكونها، كمفاتيح للأمن. بدلا من ذلك، دعا الكثير منا إلى ممارسة المزيد مما يسمى بـ«القوة الناعمة»: بالتركيز على الإنصاف والكرامة الإنسانية، والقيم العالمية المشتركة، من خلال الحوار والقيادة بالقدوة.
ووفقًا لهذا السياق، أود أن أناقش نضال زملائى المصريين. على مدار السنوات الثلاث الماضية، كنا منغمسين فى خضم انتفاضة، ملتزمة بتحقيق الديمقراطية فى مصر: توفر حقوق الإنسان، والحكم الرشيد، والفرص الاقتصادية المتساوية، والعدالة الاجتماعية. لكن المسار كان ملتويًّا ووعرًا. فى بعض الأوقات، لا تزال تشعر وأنك فى معنويات مرتفعة مثل يوم 11 فبراير 2011، عندما وافق الرئيس حسنى مبارك على التخلى عن السلطة. لكن منذ ذلك الحين فى العامين التاليين، شهدنا سيركًا حقيقيًّا من الأخطاء وسوء الإدارة، ومع ذلك فنحن لم نفقد الأمل.
الآن أنا أقود حزب الدستور من مصر، الذى يضم نسبة كبيرة من الشباب فى مصر، قادة المستقبل، الذين أشعلوا الثورة. كما أنسق أيضا عمل جبهة الإنقاذ الوطنى، وهى تحالف من جماعات المعارضة موحدة على رفضنا ممارسات الرئيس مرسى غير الديمقراطية بشكل صارخ. لدينا رؤية محددة وجدول أعمال محدد، ومجموعة من التدابير لقيادة بلدنا نحو مستقبل اقتصادى وسياسى نابض بالحياة، لكن قبل أن أقدم جدول الأعمال، اسمحوا لى أن نستعرض بإيجاز الجدول الزمنى للتقدم المحرز والانتكاسات التى أودت بنا إلى هذه النقطة.
بالعودة «فلاش باك» إلى أوائل 2010. كان الوضع القائم فى مصر قاتمًا، فبعد عقود من الحكم القمعى، أصبحت الفجوة بين الأغنياء والفقراء فاحشة، الحكومة أصبحت، رغمًا عن أى شىء، أكثر استبدادية. وكانت النتيجة فقدان الطبقة الوسطى حريتهم، وفقدان الشباب الأمل، وفقدان الفقراء القدرة على تلبية احتياجاتهم الأساسية. لم يكن هناك أى انفراجة فى الأفق، وكانت خطة مبارك لتسليم السلطة إلى ابنه جمال تقترب من أن تصبح أمرًا مفروغًا منه.
لقد بدأت مع آخرين الدعوة إلى نهضة مصرية، وهى «الجمهورية الثانية التى تؤسس على الحريات الإنسانية، والحكم الديمقراطى والعدالة الاجتماعية. كان شركائى فى المقام الأول هم الشباب المصرى، الذى لم يتمكن من أن يرى أى مستقبل فى ظل النظام القديم من حيث التعليم، وفرص العمل، ومستويات المعيشة. بدأنا فى تعبئة القاعدة الشعبية. دعمت مجموعات الـ(فيسبوك) الرؤية الجديدة لمصر وجمعت ربع مليون عضو. غالبية هؤلاء الذين تحدثنا إليهم فى جميع أنحاء البلاد كانوا يدعمون قضيتنا، لكنهم كانوا يخشون الانضمام إلينا. لقد كانت ثقافة الخوف مترسخة، وحتى مع ذلك، بحلول سبتمبر 2010 جمعنا نحو مليون توقيع على عريضة تطالب بانتخابات رئاسية حرة ونزيهة. كنا نسير كالمتهورين ضد التيار.
وفى نهاية العام. بدأت فى الدعوة إلى مظاهرة مليونية قوية، لأنه كان حتى ذلك الوقت لم تتجاوز المظاهرات بعض مئات قليلة. بحلول 15 يناير 2011، أطلقنا ثلاث صفحات عبر (فيسبوك) تحث المصريين من أجل النزول إلى الشوارع. وكان الموعد المستهدف عشرة أيام بعد ذلك اليوم، ولا أحد يعرف كم عدد الناس الذين سيستجيبون، والتوقعات لم تكن عالية.
صدم المنظمون عندما، شهدوا فى صباح 25 يناير زيادة أعداد المتظاهرين على 40 ألف شخص. كنا نبحث عن مكان واسع، فقرروا على الفور إبلاغ الناس: التجمع فى ميدان التحرير.
أنا كنت فى فيينا، وكنت ممزقًا طوال العام ما بين مشاركة حشود الجماهير فى القاهرة، وحشد الدعم لقضيتنا فى الخارج. هرعت حينها للعودة إلى الوطن، ووصلت مساء 27، وفى اليوم التالى، اتفقنا أن نطلق على اليوم «يوم جمعة الغضب»، وضغطنا من أجل وجود حضور جماهيرى واسع.
عندما انتهت صلاة الجمعة، بدأنا فى التحرك تجاه ميدان التحرير، وجدنا خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع فى استقبالنا. استهدفت أنا على وجه التحديد من قبل الشرطة، لإرسال رسالة تخويف: أنه حتى شخص بمثل عمرى ومكانتى يمكن أن يخضع لعقوبات وحشية. القليل لم يدرك أن حاجز الخوف قد تداعى. لم يكن النظام قادرًا على إيقافنا. الضوء الذى تشهده فى عيون المصريين فى الشوارع على مدى 18 يومًا المقبلة، وكانت لا تشبه أى شىء فى وقت سابق فى وطنى: إنها تعكس ثقة بالنفس، تتذوق طعم الحرية، وتؤمن بأن المستقبل يجب أن يكون مشرقًا.
ما كان قد بدأت بأقل من 50 ألف شخص فى 25 يناير تضخم إلى 20 مليونًا -واحد من كل أربعة مصريين- بحلول 11 فبراير، وهو يوم تنحى مبارك. عندما تولى الجيش السلطة منذ هذا اليوم، تم استقبال دباباتهم فى الشوارع بالبهجة والزهور.
الدرس الأول: كان من السهل التوحد ضد مبارك، لكن كان من الصعب التوحد بعد رحيله. لم يكن يتوقع أحد الكثير من النجاح فى وقت قصير للغاية. (الخطة أ) -كيفية التخلص من النظام القديم- لكنها لم تكن ملحقة بـ(الخطة ب): كيف تحكم. أصاب الثوار الثمالة من قبل حريتهم، وأصبحوا منقسمين على أسس تقليدية: يمين، ويسار، ووسط. تم السماح للإسلام السياسى، الذى كان قد قمع لعقود طويلة، أخيرا بأن يعمل فى العراء. بدأ كل فصيل ينظر إلى المشهد السياسى من منظور ضيق لمصلحة مجموعتهم. وما ضاع فى المنتصف الأهداف الأصلية للانتفاضة، والصورة العامة.
الدرس الثانى: لا للاستعانة بمصادر خارجية لإدارة الثورة، الذين يمكن أن يخسروا بسببها. فى أعقاب الفوضى التى اجتاحت البلاد باستقالة مبارك، وضع الشعب ثقته فى الجيش فى تنفيذ أهداف الثورة، لكن أجندة الجيش لم تكن متماثلة مع أجندة الثوار. رحبوا بفرصة التخلص من مبارك، وابنه جمال، ورجال الأعمال المقربين له. لكن الأهداف الثورية الأخرى -كالديمقراطية والحرية والحريات المدنية- كانت غريبة على الثقافة العسكرية المصرية، وكل هؤلاء جميعًا كانوا جزءًا من نظام مبارك. كانوا يريدون فقط تغييرًا تجميليًّا: تغييرًا كافيًّا على سطح القيادة لحمايتهم من الملاحقة القضائية بتهم فساد محتملة، لكن من دون أن يشكل هذا خطرًا على الامتيازات الخاصة بهم أو أى أمر يهدد سيطرتهم على ثلث الاقتصاد المصرى.
من الواضح، أن الجيش لم يكن لديه أى خبرة فى إدارة البلاد. فى البداية تعاملوا مع أمر خطير بمنتهى التهاون، وقالوا إن المرحلة الانتقالية ستستغرق ستة أشهر. لقد كان ذلك نوعًا من السذاجة، وكما قلت للمجلس العسكرى فى ذلك الوقت، فإنه إذا حكمنا من خلال تجارب الدول الأخرى، فإن الأمر سيستغرق عامين لبناء إطار نظام ديمقراطى. وأنا نصحتهم أن نبدأ باختيار جمعية تأسيسية ممثلة لكتابة دستور يقدم ميثاقًا محصنًا والضوابط والتوازنات لضمان ديمقراطية حقيقية. وحتى يمنح للأحزاب الجديدة المزيد من الوقت لإثبات وجودها، وتنظيمها والمشاركة فى الحياة السياسية. عندها فقط، أنا قلت، يجب بل ينبغى أن نذهب إلى انتخابات برلمانية ورئاسية.
لم يتحقق هذا، وسار الجيش فى الاتجاه المعاكس، واختار بدلًا من ذلك اتباع نصيحة من بقايا النظام القديم، وممثلى «الإسلام السياسى»، الذى كان يعلم أن الانتخابات المبكرة سوف تكون فى مصلحتهم.
والنتيجة، كما هو متوقع، سيرك دستورى وسياسى كرقصة الكابوكى. وتم صياغة التعديلات الدستورية، وطرحت للاستفتاء فقط من أجل الدستور، الذى تم إلغاؤه وبعد أيام قليلة حل محله صيغة مؤقتة صاغها الجيش. وتمت إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية على عجل لصالح المرشحين الذين يملكون المال للمنافسة. وتم إصدار قوانين عن كيفية تأسيس أحزاب سياسية جديدة ذات تكاليف باهظة على الشباب الثورى، والقطاعات الأخرى التى يمكنها المشاركة فى العملية السياسية. وهرولوا لبدء الانتخابات البرلمانية، ولم يمنح للأحزاب الجديدة سوى وقت قصير للتنظيم. العملية الانتخابية الفعلية، مع ذلك، كانت ملتوية بصورة كبيرة، حتى إنها استغرقت ثلاثة أشهر فقط لانتخاب مجلس الشعب، إضافة إلى ثلاثة أشهر أخرى لانتخاب غرفة برلمانية عاجزة تقريبًا.
حتى بالنسبة إلى الديمقراطية الكاملة، هذا سيكون بمثابة إرهاق انتخابى (الإحجام عن المشاركة فى اللعبة السياسية). وبالنسبة إلى الناخبين الجدد، كان الأمر مربكًا. غير أن الإسلاميين دعموا العملية، وذلك بسبب المنافع التى حصلوا عليها. جماعة الإخوان المسلمين كانت فى موقعها طيلة 80 عامًا، توفر الخدمات الاجتماعية التى تشتد الحاجة إليها فى أثناء مصاعب سنوات مبارك. كان من المعروف أنهم ضحايا الظلم والاضطهاد. وكانوا منظمين فى جميع أنحاء البلاد. جنبا إلى جنب مع السلفيين، وهم فصيل إسلامى آخر، فازوا بأغلبية ساحقة، وحصلوا على حصة غير متناسبة من المقاعد البرلمانية أكبر بكثير من قاعدة نفوذهم الحقيقية.
العام التالى كان سلسلة من الملاكمات السياسية، التى تشبه فى كثير من الأحيان مشاجرة فى الفناء الخلفى أكثر منها الديمقراطية. لكن من دون دستور يحدد قواعد اللعبة ويضمن الضوابط والتوازنات، كيف يمكن أن نتوقع غير ذلك؟ الإخوان المسلمون، الذين كانوا يعدون دائمًا بتقاسم السلطة خلال الفترة الانتقالية إلى الديمقراطية الناشئة، يسعون الآن للاستيلاء على ثلاثية: البرلمان، الجمعية التأسيسية، والرئاسة. غير أن الجيش فعل ما فى وسعه للحفاظ على سلطته من خلال الثغرات، رافضًا توضيح سلطات الرئيس أو التوصيف الوظيفى حتى مع الانتخابات الرئاسية الجارية. خليط من المرشحين الذين يمثلون الثورة ترشحوا للمنافسة على المنصب، ما انتهى إلى تفتيت الأصوات بينهم. اثنان فقط نجحا فى الوصول إلى المرحلة الثانية: أحدهما عضو فى جماعة الإخوان، والآخر استمرار لنظام مبارك. الخاسرون الحقيقيون كانوا هم الأغلبية الصامتة من المصريين، الذين رأوا أن أيًّا من المرشحين بعيد عن تمثيل وجهات نظرهم. وكان التصويت الذى أعلن نتيجته فى يونيو 2012 لم يكن بفارق كبير فى صالح أى مرشح، حيث كان الاختيار إما ضد النظام القديم وإما ضد الإسلام السياسى.
نتائج الانتخابات أثمرت عن مزيد من الفوضى، ما يمكن التنبؤ به مجددا فى ظل غياب دستور لائق لتحديد أدوار وصلاحيات السلطتين التنفيذية وفروع الحكومة الأخرى. الرئيس الجديد، محمد مرسى، لم يبذل جهدا للوصول إلى بقية المجتمع. بدلا من ذلك، اعتمد على مشورة فصيله -الإسلاميين- الذين ليس لديهم سواء المؤهلات ولا خبرة للحكم. الإجراءات الأكثر درامية للنظام الجديد تركزت على تعزيز السلطة: فى سلسلة من التحركات التى تم انتقادها على نطاق واسع، قام مرسى بانقلاب ناعم ضد قادة الجيش، وأضاف سلطات تشريعية لدوره التنفيذى، حيّد القضاء، ومنع أى مراجعات لمراسيمه الدستورية، باختصار، توّج نفسه فرعونًا.
هل هذه ديمقراطية ناجحة؟ لا أعتقد ذلك.
الجائزة المقبلة كانت الدستور نفسه. البرلمان المشوّه اختار جمعية تأسيسية مكتظة بالإسلاميين، المصرين على كتابة دستور يعكس وجهات نظرهم، حتى لو أنها انتهكت القيم المعترف بها عالميًّا، بما فى ذلك حرية المعتقد، وحرية التعبير، والحقوق المتساوية للنساء والأقليات. وأغفلوا الضمانات الكافية التى تكفل توازن القوى. الأسوأ من ذلك كله، أنهم مهدوا الطريق لكابوس يخشاه الكثيرون: علاقة الملتبسة بين المسجد والدولة التى من شأنها أن تمكن المؤسسات الدينية من أن تواجه وتتداخل مع سلطة القضاء.
ليس من المستغرب، انسحاب ممثلى الأحزاب الليبرالية والأقليات وغيرهم من الفصائل غير الإسلامية من الجمعية التأسيسية احتجاجًا. حلفاء مرسى استبدلوا المنسحبين بـ«احتياطيين» يشاركونهم أيديولوجيتهم. بعد عملهم جاهدين بليل، اعتمدوا مسودة الدستور بعد 48 ساعة. حتى عندما طرح هذا الإعلان غير السليم للاستفتاء العام بعد ذلك بوقت قصير، وافق عليه ما يقرب من أغلبية الثلثين، وهو ما عززه ثلث المصريين من الأميين، والرغبة الواسعة لبعض أشكال الاستقرار بعد فترة ممتدة مطولة من الفوضى السياسية.
كيف كان رد فعل الولايات المتحدة والغرب خلال هذه الفترة من الاضطرابات الجارية؟ لقد قدموا إلى حد كبير دعمهم للسيد مرسى بصفته الرئيس المنتخب ديمقراطيًّا. ربما يرون هذا الوضع باعتباره فرصة للحوار مع الإسلام السياسى، حيث تعد معظم الحركات السياسية الإسلامية فروع شعب تنبت لجماعة الإخوان. من الواضح، أن الولايات المتحدة كانت مسرورة بالطريقة التى تعامل بها الرئيس المصرى الجديد بشأن العلاقات مع إسرائيل وحماس. بيد أن الغرب يواجه الآن معضلة: كيف يمكن التوفيق بين سياسة الواقع من حشد الاستقرار فى مصر بينما يتحدث ضد انتهاكات للمبادئ الديمقراطية والسلوكيات القمعية التى أظهرها النظام الجديد؟
بالنسبة إلى المصرى العادى، كانت الحكومة التى يهيمن عليها الإسلام السياسى إحباطًا كبيرًا. أصبحت المؤسسات المدنية مفككة تقريبًا. تواصلت المظاهرات الدائمة: لزيادة الأجور، الضمان الاجتماعى، من أجل تحسين الرعاية الصحية. مستويات المعيشة تدنت، وانخفضت السياحة بنسبة 50% عن حجمها السابق. شهدنا تآكل القانون والنظام، مع الفظائع التى ارتكبت ضد المتظاهرين فى كثير من الأحيان. الاقتصاد المصرى أقرب إلى الجمود: الدَين الوطنى يساوى الآن الناتج المحلى الإجمالى، وفقدت عملتنا 20% من قيمتها خلال الأشهر القليلة الماضية. استمرار الاستقطاب يفصل بين مؤيدى الإسلام السياسى -نحو 30% من المصريين- عن بقية المجتمع: الليبراليين، والاشتراكيين، والشباب الغاضب، الذين يعتدون أنه قد تم اختطاف ثورتهم، والمسيحيين الأقباط، الذين يتم استهدافهم بشكل متزايد من قبل التمييز الطائفى.
كثير من هذا قد ينظر إليه على أنه أعراض للديمقراطية الوليدة التى تمر بفترة التسنين. لكننا لا يمكننا ولن سوف نصدق أن هذا هو أفضل ما يمكن القيام به، وأن هذه هى الديمقراطية التى حاربنا من أجلها. حكومة مرسى، غير معتادة على مبادئ الديمقراطية، وتتوهم أن «الفائز يأخذ كل شىء». وحتى الآن يكتشف الإسلاميون أنهم لا يستطيعون الحكم بمسؤولية دون ضمان تمثيل جميع الفصائل المجتمعية. إن استمرار الوضع الراهن ليس مستدامًا، وربما يؤدى إلى استمرار حالة عدم الاستقرار.
لدىّ اعتقادى راسخ -أتشاركه وزملائى من مختلف ألوان الطيف السياسى فى أحزاب المعارضة- أن حوارًا وطنيًّا، يؤدى إلى شراكة وطنية تعترف وتكرم التنوع الكامل للمجتمع المصرى، أمر حتمى. الندوب التى تركتها عقود من القمع عميقة. نحن بحاجة إلى عملية منظمة من المصالحة الوطنية، بما فى ذلك العدالة الانتقالية، على غرار ما جرى فى جنوب إفريقيا وبعض دول أمريكا اللاتينية. دون شك، نحن بحاجة إلى دستور معدل يليق بالديمقراطية، دستور يكفل الحريات الأساسية، ويحد صلاحيات أى فرع من فروع الحكومة، ويضمن العدالة الاجتماعية.
طبيعة وحجم المهام التى أمامنا سوف تأخذ كامل قوتها من مصر موحدة وبدعم قوى من المجتمع الدولى. يجب علينا بناء إطار متماسك للمجتمع المدنى، مع مؤسسات قوية. يجب علينا ضمان استقلال السلطة القضائية. يجب علينا حماية حرية وسائل الإعلام. يجب علينا تحفيز الاقتصاد، واستغلال إمكانيات مصر كسوق ناشئة قوية، ويجب أن نعطى الأولوية لاحتياجات 40% من المصريين تحت خط الفقر.
صاحب هذه الحركة فى مصر اثنان من النتائج الأوسع تأثيرًا. أولا، مع التنمية الاقتصادية والتماسك الاجتماعى العديد من أشكال التطرف، بما فى ذلك التطرف الدينى، سوف تفقد موطئ قدمها وتتلاشى. وثانيًا، مع الانتقال الناجح من السلطوية الاستبداد إلى الديمقراطية، مصر يمكنها استعادة عباءة الزعامة الإقليمية، لتصبح محركًا للتغيير الإيجابى والحداثة وقيادة النهضة العربية.
دعونى أسهب فى هذه النقطة الأخيرة بالتحدث عن الوضع الأوسع نطاقًا فى الشرق الأوسط. من ناحية، من المثير رؤية صحوة سياسية وثقافية عبر المنطقة. ومن ناحية أخرى، من المثبط للعزائم أن ترى افتقارًا للتقدم فى حل النزاعات، سواء المتعلقة بعقود العداء بين إسرائيل وفلسطين، أو الحرب الأهلية السورية التى نشبت مؤخرا، أو ندبات الحروب المدمرة التى لم تلتئم بعد فى العراق وأفغانستان، أو جهد الانتقال المؤلم من عقود الاستبداد إلى الحرية والديمقراطية الذى يظهر جليًّا فى كثير من الصراعات العرقية والدينية كما نشهد فى العراق وليبيا واليمن.
الصراع الفلسطينى الإسرائيلى هو قلب عدم الاستقرار فى الشرق الأوسط. احتمال التوصل إلى حل عادل ودائم لهذا الصراع يبدو بعيدا أكثر من أى وقت مضى، ويستمر الشعور بالظلم والخزى فى تأجيج الغضب والتطرف. الشهر الماضى لاقت مبادرة وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى لإحياء محادثات السلام ترحيبًا، لكن بعبث خفى. ما الجديد هذه المرة؟ عبر العالم العربى، لا يزال هذا الوضع متقيحًا وجرحًا مفتوحًا.
الشرق الأوسط تتقاذفه الأمواج ما بين أسلحة تقليدية، واستنزاف هائل للموارد المالية التى يمكن تخصيصها للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. تستخدم الأسلحة الكيميائية فى الصراعات الإقليمية -أبرزها حرب إيران والعراق فى الثمانينيات- فضلا عن تقارير متزايدة تزعم استخدام غاز الأعصاب «سارين» فى سوريا خلال الشهور الأخيرة. ترفض إسرائيل مناقشة ترسانتها النووية، لا تكترث إلى طلبات انضمامها لاتفاقية حظر الأسلحة النووية بحجة أنها محاطة بجيران معادين لها. إيران تمضى قدمًا فى برنامجها النووى متحديةً القلق الدولى حول نواياها. الشعور بانعدام الأمن وعدم الاستقرار منتشر عبر المنطقة.
إنها صورة قاتمة، لكن ما زلت أعتقد أنه من الضرورى والممكن تحقيق بيئة سلام وديمقراطية وتنمية فى الشرق الأوسط. لماذا؟ إنه أمر لازم، لأن البديل سيكون كارثة محتومة، وهو أمر ممكن، حيث تم تنفيذه بنجاح فى أماكن أخرى. انعدام الأمن، والعداء، وغياب الثقة، ليست أمورًا فريدة فى الشرق الأوسط. وقوفى هنا فى قلب أوروبا، لا يمكننى سوى التفكر مليًّا فى النموذج الذى وضعته ألمانيا وجيرانها الأوروبيون.
تصدعت هذه القارة العظيمة فى ما كان يبدو أنه سلسلة حرب لا تنتهى أبدا حتى فترة متقدمة من النصف الثانى من القرن الماضى. الحرب الباردة، التى كان من الممكن أن تتفاقم إلى معركة هرمجدون النووية فى أى وقت، انتهت فقط منذ نحو 20 عامًا. ومع هذا، حصل الاتحاد الأوروبى العام الماضى على جائزة نوبل للسلام عن جدارة. كيف حدث هذا التغيير؟ السلام الذى يتمتع به الأوروبيون الغربيون منذ عقود لم يحدث بالصدفة. ولا -مع كل الاحترام الواجب- لأن الأوروبيين كانوا أذكياء من نوع خاص أو متفوقين أخلاقيًّا. لقد حدث هذا بسبب أن بعض الزعماء الفرنسيين والألمانيين الذين يتمتعون ببعد نظر، لجؤوا إلى تجنب وقوع هذا الجنون مرة أخرى، مدفوعين بالفزع من الدمار الذى خلفته الحربان العالميتان خلال جيل واحد. رافضين أن تثبط النكسات عزائمهم، بنوا بدقة مجتمعًا جديدًا من الدول التى على مدار 5 عقود أصبحت الاتحاد الأوروبى الذى نعرفه الآن. اليوم لا تزال هناك اختلافات بين الدول الأوروبية، لكن أصبحت الحرب بين الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى أمرًا غير وارد.
فى المخروط الجنوبى بقارة أمريكا الجنوبية (المنطقة الجغرافية الواقعة فى أقصى جنوب أمريكا الجنوبية)، فى الفترة الأخيرة من منتصف السبعينيات، كانت البرازيل وتشيلى والأرجنتين وباراجواى وبوليفيا وأوروجواى فى حكم أنظمة ديكتاتورية أو عسكرية، وكان التنافس الإقليمى وعدم الاستقرار هو العرف السائد، لكن مع انتشار الديمقراطية والتكامل الاقتصادى، جاء السلام والاستقرار. هذه الأمثلة هى أدلة حيّة تفيد أن التركيز على الأمن الإنسانى والتعاون الاقتصادى والاجتماعى والثقافى والتكامل فى بيئة ديمقراطية، أكثر أهمية -ويشكل أدوات أكثر قوة للسلام والاستقرار- من المشاحنات على الحدود واللغة والأصل العرقى. كمصرى مررت بنشوة ثورة سلمية منذ عامين، وبتقدم بطىء بشكل مؤلم منذ ذلك الحين، أعبر عن امتنانى لجمهور كهذا أظهر أن الانتقال من بيئة خانقة من الصراع وعدم الثقة والاستبداد إلى أخرى من الديمقراطية والتنمية والتضامن الإنسانى، أمر ممكن. أنتم نموذج مثالى يمنحنا الأمل.
لا يوجد سبب جذرى يمنع حدوث تحول مماثل فى الشرق الأوسط، لكن تحول كهذا، بين الدول وداخلها سيكون ممكنًا فقط إذا أدرك جميع الأطراف أنه تحول عادل وشامل. نحتاج إلى بدء التركيز على الصراعات بين الدول. لا يزال الصراع الفلسطينى الإسرائيلى هو أساس عدم الاستقرار. أى تسوية ستتطلب اعترافًا كاملًا بحقوق الشعب الفلسطينى -بما فى ذلك حقه فى دولة مستقلة خاصة- فضلا عن إدراك كل الأطراف بحق إسرائيل «فى العيش بسلام داخل حدود آمنة ومعترف بها دون أن تهديدات أو أعمال عنف»، كما ورد فى القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن بالأمم المتحدة. يجب أيضا توفير إجراءات أمنية وأخرى من شأنها بناء الثقة: وأخيرا وليس آخر حظر أسلحة الدمار الشامل. الطريقة الواقعية الوحيدة هى المضى بالتوازى فى عملية السلام، وإطار أمنى طويل المدى. الوضع فى الشرق الأوسط يوضح أن بناء الترسانات العسكرية لا يعزز الأمن. بشكل أساسى، الأمن لا يعنى كم الأسلحة أو الجنود الذين تمتلكهم دولة ما، لكنه حول ما إذا كانت تؤمن بأنه يمكنها العيش مع الدول المجاورة لها على أساس اتفاق متبادل.
فى الشرق الأوسط اليوم، هذا يعنى إدراك أن 6 عقود من العداء والصراع لم توصلنا إلى شىء. يعنى أنه يجب علينا النظر إلى الأمام لا إلى الخلف. يعنى توجيه إمكانات الشرق الأوسط الإنتاجية الهائلة إلى تنمية. الهدف النهائى هو بناء سلام شامل وتنفيذ نظام أمنى إقليمى جماعى. ربما تتساءل: كيف يمكن جعل إيران مناسبة لهذا المعادلة؟ يتصدر برنامج إيران النووى عناوين الصحف منذ عقد. قدم الإعلام الغربى فى وقت ما رسمًا كاريكاتيريًّا لملالاى مجانين عازمين على الحصول على قنبلة نووية يمكنهم بها تهديد الغرب وإسرائيل. من الواضح أن الواقع أكثر تعقيدًا. ينبغى أن نبدأ فى سؤال أنفسنا: لماذا قد تريد أى دولة قدرات نووية؟ الإجابة واضحة: ينظر إلى الأسلحة النووية -فى الشرق الأوسط وأى مكان آخر- كقوة وهيبة وتأمين ضد الهجمات. كثير من القوة العظمى فى العالم يدركون هذا فعليًّا بالإصرار على الاحتفاظ بترسانات نووية لأنفسهم.
إيران عازمة على تزعم التكنولوجيا النووية: جزئيًّا بسبب الرغبة فى الاعتراف بها كقوة إقليمية مهمة، وجزئيًّا لأن إيران تشعر بأن احتمال مهاجمتها ضئيل إذا كانت دول أخرى تعتقد أنها لديها القدرة على إنتاج قنبلة نووية. من غير الصعب التمسك بهذا المنطق إذا فكرنا فى مقارنة الاستجابة الدولية حول العراق وكوريا الشمالية. الشك فى أن صدام حسين كان يعمل على أسلحة دمار الشامل تسبب فى غزو العراق والإطاحة بنظام صدام. استحواذ كوريا الشمالية فعليًّا على أسلحة نووية، على النقيض، دفع إلى دعوتها إلى مائدة المفاوضات. ذلك الدرس لم يضع فى دول أخرى.
يمكن حل مشكلة إيران النووية -ليس بالتهديدات والترهيب ولا بالتنابز بالألقاب والاتهامات، لكن عبر الحوار والمفاوضات. يجب أن تتحدث إيران والولايات المتحدة مباشرة لتسوية المظالم وعدم الثقة المتراكم طوال 50 عامًا. يجب أن يرسموا مسارًا جديدًا مبنيًّا على الثقة والتوفيق بين الاختلافات. البرنامج النووى الإيرانى هو أحد الأعراض بين أخرى كثيرة من انعدام الأمن المزمن فى الشرق الأوسط. لا يمكن التعامل معها بفاعلية بشكل منفصل. يجب أن نسعى إلى حل كلى.
* * *
عندما نفكر بأقوى التحديات العالمية التى نواجهها، فإننا نجد أنها متأصلة فى القيم المجتمعية المنحرفة والسياسات المشوبة بالخلل. لقد بدأت الأزمات الاقتصادية التى شهدناها فى السنوات الأخيرة فى أغنى الدول، لكن الاقتصاديات الأكثر فقرًا هى من عانت من أخطر عواقبها. أصبح عدم المساواة فى توزيع الثروة بين الدول والشعوب فاحشًا، وآخذًا فى الاتساع. ويظل الفقر والجوع فى مستويات مزرية. ويعيش ما يقرب من 2.5 مليار من البشر على أقل من دولارين فى اليوم. وسوف يقتل الجوع عددا أكبر من الناس مما تقتل أمراض الإيدز والملاريا والسل مجتمعة. لا يملك 870 مليونًا من البشر ما يكفى لسد رمقهم. ويتوقف نمو طفل واحد من كل أربعة من أطفال العالم بسبب نقص التغذية.
إن نوعًا مشابهًا من عدم المساواة يكمن فى كيفية التعامل مع الصراع. نفقد ملايين الأرواح البريئة فى النزاعات المسلحة، فى حين لا يقوم المجتمع الدولى بأكثر من مجرد الوقوف مكتوف الأيدى لأن أماكن مثل رواندا ودارفور لا تمثل «قيمة استراتيجية». وقداسة الروح البشرية لا يتم تقييمها بالتساوى: فى حرب العراق، على سبيل المثال، عرفتنا بالضبط عدد الجنود الأمريكيين وغيرهم من جنود التحالف الذين قتلوا، لكن أحدًا لم يهتم بتقديم أكثر من مجرد إحصاء غامض لعدد الضحايا العراقيين الذين فقدوا أرواحهم.
إنها صورة زائفة وقف المجتمع الدولى متفرجًا حيالها خلال العامين الماضيين -كما لو كان مغيبًا- بينما تحدث المذابح الجماعية فى مكان مثل سوريا. فقد أكثر من 70 ألف سورى أرواحهم. فى 2005، سمعنا جلبة هائلة فى الأمم المتحدة، عندما تعهد زعماء العالم بـ«المسؤولية عن حماية» مبدأ أعلنوا أنه سوف يمثل حماية ضد الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. لكن المبدأ يصبح بلا معنى ما لم يترجم إلى فعل. ورغم جهود مفوض الأمم المتحدة السامى لشؤون اللاجئين للاهتمام بالخروج الجماعى للاجئين عبر الحدود السورية، فإن الأمم المتحدة تبدو رغم كل شىء قليلة الحيلة. قام مجلس الأمن بتفعيل مجموعة هزلية من التحركات التى يعتزم القيام بها، فلم يقدم سوى التصفيق والخطب والخلافات السياسية.
إن هذه وغيرها من التهديدات للأمن الإنسانى -كالفقر والأمراض والحروب والإرهاب والتراجع البيئى وأسلحة الدمار الشامل- كلها تهديدات متداخلة. وكلها «تهديدات بلا حدود» تجعل الأفكار التقليدية للأمن القومى بالية. وبطبيعتها، فإن هذه التهديدات تستلتزم تعاونًا دوليًّا فعالًا. لا يمكن لحكومة أن تتغلب بمفردها على هذه التهديدات، فما زلنا نجد أن غياب الأمن والتطرف فى مكان يعيد إنتاج نفسه فى كل مكان.
إن عدم المساواة وغياب الأمن -وهما التحديان العالميان الكبيران- مرتبطان ببعضهما أيضًا. وكما قلت سابقًا، فإنهما وجهان لعملة واحدة. وكثيرا ما يكون الفقر مرتبطًا بغياب الحكم الرشيد. وغياب الحكم الرشيد مرتبط بمشكلات متعددة: الفساد والقمع وغياب الحرية السياسية وإنكار العدالة الاجتماعية وفشل سيادة القانون وغياب الفرصة الاقتصادية المستدامة. تمتزج هذه الإخفاقات لتنتج فقدان الأمل، والشعور بعدم العدالة والتهميش والتشدد، وهى التى يمكن أن تغذى بعد ذلك الحروب الأهلية والحروب بين الدول.
المفارقة الكبرى هى أن القوة العسكرية دائمًا ما يثبت أنها حتى أقل تأثيرًا فى مواجهة تلك التحديات العالمية المتداخلة. لقد ظلت الولايات المتحدة القوة العظمى الأوحد فى العالم لعقدين من الزمن. وهى تحتفظ بمئات القواعد العسكرية فى أنحاء العالم. تحكم قواتها البحرية المحيطات بمجموعات من حاملات الطائرات التى تعمل بالطاقة النووية. وقواتها الجوية تحكم السماوات من دون منازع. ومع هذا فإن معظم الحروب الأمريكية الأخيرة فى أفغانستان والعراق قد طالت لسنوات. ورغم قوة النيران الكاسحة المتفوقة والإنفاق المالى الهائل، فإن النصر ظل مراوغًا.
ماذا يعلمنا هذا عن قيم التفوق العسكرى المعاصر؟ لقد حفر أستاذ العلوم السياسية الأمريكى جوزيف ناى مصطلح «القوة الناعمة» لوصف الصفات غير العسكرية التى تجعل بلدًا ما ذا نفوذًا وقويًّا ومحط إعجاب. وفقا لـ (ناى) «تملك الدولة المزيد من القوة الناعمة إذا كانت ثقافتها وقيمها ومؤسساتها تجتذب إعجاب واحترام أجزاء أخرى من العالم. عندما تجعل الآخرين يعجبون بمثلك ويريدون ما تريده، فإنه لن تكون بحاجة إلى إنفاق مثل هذا الكم على العصى والجزرات لتحريك فى الاتجاه الذى تريد. إن الإغراء دائمًا ما يكون أكثر تأثيرًا من الإجبار، وكثير من القيم مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والفرص الفردية تكون مغرية بشدة».
إن «القوة الناعمة» مصدر وفير جاهز لتصديره كأداة لبذل النفوذ. والعديد من الديمقراطيات الراسخة تملك حزمة واسعة من القيم الثقافية محل الإعجاب العالمى. حرية التعبير والنشاط الاقتصادى والاجتماعى. سيادة القانون والعلم والتكنولوجيا المتقدمة. إن هذه الأشياء هى ما تصبو إليه المجتمعات المضطهدة والفقيرة حول العالم. ولو خصصت الدول الغنية، خصصت نصف ما تبذله من إبداع وموارد على أسلحة الحرب والدمار الآن، من أجل نشر أدوات السلام والتقدم تلك، لأصبح عالمنا مكانًا أكثر أمنًا. وسوف يكون مردود هذا الاستثمار فوريًّا.
يجب أن تكون هذه القيم الثقافية مصحوبة بالاستعداد للمشاركة فى الحوار. يزعجنى تردد العديد من الزعماء فى الحديث إلى خصومهم قبل أن يتم الوفاء بشروط مسبقة. إن الحوار هو أفضل أداة ملموسة لحل النزاعات.
ليس هذا تفكيرًا بالتمنى من عقل ليبرالى. لقد أدرك البعض من أبرز رجال الدولة المحافظين على مدار العقود الماضية أن الحديث إلى عدوك -أى الانخراط فى الدبلوماسية- ليس علامة على الضعف. لقد كان ريتشارد نيكسون ورونالد ريجان يضمران العداء العميق للشيوعية، لكن هذا لم يمنع نيكسون من السفر إلى الصين لإطلاق المحادثات كما لم يمنع ريجان من التفاوض على اتفاقيات مع الاتحاد السوفييتى تهدف إلى فرض رقابة قوية على التسلح. إن تلك المحادثات لم تكن مدفوعة بمثالية فكرية رفيعة. بل كانت استراتيجيات لزعماء عنيدين يسعون لمصالح بلادهم، والعالم أجمع فى واقع الأمر. وقد أثبت التاريخ أنهم كانوا على صواب.
إن الحوار القائم على الاحترام المتبادل والاستعداد لحل الاختلافات وتصدير «القوة الناعمة» هى أدوات تصبح الأكثر تأثيرًا عندما يتم استخدامها بشكل جماعى، مع عمل الدول معًا من خلال المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة ومنظماتها. نعم، الأمم المتحدة ووكالاتها لديها عيوب، شأن معظم البيروقراطيات. مجلس الأمن نفسه فى حاجة ماسة إلى الإصلاح. لكن عدم كفاية الأمم المتحدة متأصلة فى عدم استعداد دولها الأعضاء لإمدادها بالموارد والصلاحيات الضرورية، وتحديثها لتكون متوافقة مع الواقع الراهن.
وفى الختام:
لقد تحدثت اليوم عن مجموعة من التحديات المتعلقة بالأمن الإنسانى: التحديات التى تواجه مصر والشرق الأوسط والمجتمع الدولى بأكمله. ومع هذا، فما زال يحدونى الأمل. إن التاريخ يقدم العديد من الدروس، تخبرنا عن أناس يترفعون عن العداوة وغياب الثقة ويعملون معًا من أجل صالح الجميع. ومهما يكن حجم التحديات، فإن الاستثمار المستدام فى الأمن الإنسانى هو استثمار فى مستقبلنا. لا بد لنا أن نشارك فى حل النزاعات. ولا بد أن نتشارك ثروة الكوكب بقدر أكبر من المساواة. ولا بد أن نتواصل عبر الانقسامات الثقافية بروح من الانفتاح والتسامح.
وهنا يحضرنى قول القديس فرانسيس «أنا لا أطلب كثيرًا.. أن أفهم بقدر ما أفهم».
إن الحلول لتلك التحديات العالمية فى المتناول -لأن الحلول هى فى واقع الأمر- تكمن فينا. إنه الاستعداد لأن أتفهم أننى من يحمى أخى، وإدراك أننا جميعا أسرة إنسانية واحدة، نتشارك الرغبة فى العيش فى سلام وحرية وكرامة. هذا هو النضال -الجهاد المشترك- الذى نتشاركه جميعًا: إنه السعى إلى الأمن الإنسانى، جهاد النفس.
المصدر التحرير

0 التعليقات:

إرسال تعليق